فصل: تفسير الآيات (11- 12):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: محاسن التأويل



.تفسير الآيات (11- 12):

القول في تأويل قوله تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ تُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ قَالُواْ إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِن لاَّ يَشْعُرُونَ} [11- 12].
شروع في تعديد بعضٍ من مساوئهم المتفرعة- على ما حكى عنهم من الكفر والنفاق-، والفساد: خروج الشيء عن حال استقامته وكونه منتفعاً به، ونقيضه الصلاح: وهو الحصول على الحالة المستقيمة النافعة. والفساد في الأرض: تهييج الحروب والفتن، لأن في ذلك فساد ما في الأرض، وانتفاء الاستقامة عن أحوال الناس، والزروع، والمنافع الدينية والدنيوية. قال الله تعالى: {وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْفَسَادَ} [البقرة: 205] {أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ} [البقرة: 30]. ومنه قيل لحربٍ كانت بين طيء: حرب الفساد-.
وكان إفساد المنافقين في الأرض أنهم كانوا يُمالئون الكفار على المسلمين بإفشاء أسرارهم إليهم، وإغرائهم عليهم، واتخاذهم أولياء، مع ما يدعون في السر إلى تكذيب النبي صلى الله عليه وسلم وجحد الإسلام، وإلقاء الشبه، وذلك مما يجرئ الكفرة على إظهار عداوة النبي صلى الله عليه وسلم، ونصب الحرب له، وطمعهم- في الغلبة، فلما كان ذلك من صنيعهم مؤدّياً إلى الفساد- بتهييج الفتن بينهم- قيل لهم: لا تفسدوا- كما تقول للرجل: لا تقتل نفسك بيدك ولا تلق نفسك في النار، إذا أقدم على ما هذه عاقبته- وقد قال تعالى: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ إِلَّا تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ} [الأنفال: 73]. فأخبر أن مولاة الكافرين تؤدّي إلى الفتنة والفساد، لما تقدم.
وقولهم: {إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ} أي: بين المؤمنين وأهل الكتاب. نداري الفريقين ونريد الإصلاح بينهما كما حكى الله عنهم أنهم قالوا: {إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا إِحْسَاناً وَتَوْفِيقاً} [النساء: 62]. أو معناه: إنما نحن مصلحون في الأرض بالطاعة والانقياد.
قال الراغب: تصوروا إفسادهم بصورة الإصلاح- لما في قلوبهم من المرض- كما قال: {أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً} [فاطر: 8] وقوله: {وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الأنعام: 43]. وقوله: {وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً} [الكهف: 104].
وقال القاشاني كانوا يرون الصلاح في تحصيل المعاش، وتيسير أسبابه، وتنظيم أمور الدنيا- لأنفسهم خاصة- لتوغّلهم في محبة الدنيا، وانهماكهم في اللذات البدنية، واحتجابهم- بالمنافع الجزئية، والملاذّ الحسية- عن المصالح العامة الكلّية، واللذات العقلية، وبذلك يتيسر مرادهم، ويتسهل مطلوبهم، وهم لا يحسون بإفسادهم المدرك بالحس.

.تفسير الآية رقم (13):

القول في تأويل قوله تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُواْ كَمَا آمَنَ النَّاسُ قَالُواْ أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاء أَلا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاء وَلَكِن لاَّ يَعْلَمُونَ} [13].
{وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ} بطريق الأمر بالمعروف، إثر نهيهم عن المنكر- إتماماً للنصح، وإكمالاً للإرشاد: {آمِنُواْ كَمَا آمَنَ النَّاسُ} أي: الكاملون في الْإِنْسَاْنية، فإن المؤمنين هم الناس في الحقيقة لجمعهم ما يُعد من خواص الْإِنْسَاْن وفضائله-: {قَالُواْ أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاء} استفهام في معنى الإنكار. والسفه: خفّةٌ وسخافةُ رأيٍ يورثهما قصور العقل، وقلة المعرفة بمواضع المصالح والمضار، ولهذا سمى الله النساء والصبيان سفهاء في قوله تعالى: {وَلا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَاماً} [النساء: 5].
وإنما سفّهوهم- مع أنهم العقلاء المراجيح- لأنهم لجهلهم، وإخلالهم بالنظر، وإنصاف أنفسهم، اعتقدوا أن ما هم فيه هو الحقّ، وأن ما عداه باطل- ومن ركب متن الباطل كان سفيهاً- ولأنهم كانوا في رياسة في قومهم، ويسار، وكان أكثر المؤمنين فقراء، ومنهم مَوَالٍ- كصهيب، وبلال، وخباب- فدعوهم سفهاء تحقيراً لشأنهم!: {أَلا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاء وَلَكِن لاَّ يَعْلَمُونَ}.

.تفسير الآية رقم (14):

القول في تأويل قوله تعالى: {وَإِذَا لَقُواْ الَّذِينَ آمَنُواْ قَالُواْ آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْاْ إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُواْ إِنَّا مَعَكْمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُونَ} [14].
{وَإِذَا لَقُواْ الَّذِينَ آمَنُواْ قَالُواْ آمَنَّا} أي: أظهروا لهم الإيمان، والموالاة، والمصافاة- نفاقاً، ومصانعةً، وتقيَّةً، وليشركوهم فيما أصابوا من خيرٍ ومغنم-.
واعلم أنّ مساق هذه الآية بخلاف ما سيقت له أول قصة المنافقين، فليس بتكرير؛ لأن، تلك في بيان مذهبهم، والترجمة عن نفاقهم، وهذه لبيان تباين أحوالهم، وتناقض أقوالهم- في أثناء المعاملة والمخاطبة- حسب تباين المخاطبين!
{وَإِذَا خَلَوْاْ إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُواْ إِنَّا مَعَكْمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُونَ} يقال: خلوت بفلان وإليه أي: انفردت معه، ويجوز أن يكون من خلا بمعنى: مضى، ومنه: القرون الخالية. والمراد بـ: {شَيَاطِينِهِمْ}: أصحابهم أُولو التمرد والعناد، والشيطان يكون من الإنس والجن، كما قال تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوّاً شَيَاطِينَ الإِنسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً} [الأنعام: 112]. وإضافتهم إليهم للمشاركة في الكفر، واشتقاق شيطان من شطن، إذا بَعُد؛ لبعده من الصلاح والخير.
ومعنى: {إِنَّا مَعَكْمْ} أي: في الاعتقاد على مثل ما أنتم عليه، إنّما نحن في إظهار الإيمان عند المؤمنين مستهزئون ساخرون بهم، والاستهزاء بالشيء السخرية منه، يقال: هزأت واستهزأت بمعنى.

.تفسير الآية رقم (15):

القول في تأويل قوله تعالى: {اللّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ} [15].
{اللّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ} يسخر بهم للنقمة منهم- هكذا فسره ابن عباس رضي الله عنهما فيما رواه الضحاك-: {وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ} يزيدهم على وجه الإملاء، والترك لهم في عتوهم وتمردهم، كما قال تعالى: {وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ} [الأنعام: 110].
والطغيان: المراد به هنا: الغلو في الكفر ومجاوزة الحد في العتوّ. وأصل المادة هو المجاوزة في الشيء، كما قال تعالى: {إِنَّا لَمَّا طَغَا الْمَاءُ حَمَلْنَاكُمْ فِي الْجَارِيَة} [الحاقة: 11].
والعمه: مثل العمى- إلا أن العمى عامّ في البصر والرأي، والعمه في الرأي خاصة- وهو التحير والترددّ، لا يدري أين يتوجه.
أي في ضلالهم وكفرهم- الذي غمرهم دنسه، وعلاهم رِجْسه- يتردّدون حيارى، ضُلّالاً، لا يجدون إلى المخرج منه سبيلاً.
والمشهور فتح الياء من: {يَمُدُّهُمْ}، وقرئ- شاذاً- بضمها، وهما بمعنى واحد. يقال: مد الجيش وأمده- إذا زاده، وألحق به ما يقويه ويكثره- وكذلك مدّ الدواة وأمدها زادها ما يصلحها.

.تفسير الآية رقم (16):

القول في تأويل قوله تعالى: {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرُوُاْ الضَّلاَلَةَ بِالْهُدَى فَمَا رَبِحَت تِّجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُواْ مُهْتَدِينَ} [16].
{أُوْلَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرُوُاْ الضَّلاَلَةَ بِالْهُدَى} إشارة إلى المذكورين باعتباره اتصافهم بما ذكر من الصفات الشنيعة المميزة لهم عمن عداهم أكمل تمييز، بحيث صاروا كأنهم حضّار مشاهدون على ما هم عليه. وما فيه من معنى البعد للإيذان ببعد منزلتهم في الشر وسوء الحال، ومحلُّه الرفع على الابتداء، خبرُه قوله تعالى: {الَّذِينَ اشْتَرُوُاْ} الخ. والجملة مسوقةٌ لتقرير ما قبلها، وبيانٌ لكمال جهالتهم- فيما حكي عنهم من الأقوال والأفعال- بإظهار غاية سماجتها، وتصويرها بصورة ما لا يكاد يتعاطاه من له أدنى تمييز- فضلاً عن العقلاء-.
و: {الضَّلاَلَةَ} الجور عن القصد، و{الهدى} التوجه إليه. وقد استعير الأول: للعدول عن الصواب في الدين، والثاني: للاستقامة عليه. والاشتراء: استبدال السلعة بالثمن- أي: أخذها به- فاشتراء الضلالة بالهدى مستعار لأخذها بدلاً منه أخذاً منوطاً بالرغبة فيها والإعراض عنه.
فإن قيل: كيف اشتروا الضلالة بالهدى، وما كانوا على هدى؟
قلت: جعلوا لتمكُّنهم منه- بتيسير أسبابه- كأنه في أيديهم، فإذا تركوه إلى الضلالة قد عطَّلوه، واستبدلوها به، فاستعير ثبوته لتمكُّنهم بجامع المشاركة في استتباع الجدوى. ولا مِرْية في أن هذه المرتبة- من التمكن- كانت حاصلة لهم بما شاهدوه- من الآيات الباهرة، والمعجزات القاهرة- من جهة النبي صلى الله عليه وسلم.
{فَمَا رَبِحَت تِّجَارَتُهُمْ} عطف على الصلة داخل في حيزها. والفاء على ترتُّب مضمونه عليها. والتجارة صناعة التجار، وهو التصدِّي للبيع والشراء، لتحصيل الربح وهو الفضل على رأس المال، وإسناد عدمه- الذي هو عبارة عن الخسران- إليها، وهو لأصحابها، من الإسناد المجازيّ، وهو: أن يسند الفعل إلى شيء يتلبس بالذي هو في الحقيقة له- كما تلبست التجارة بالمشترين-. وفائدته: المبالغة في تخسيرهم، لما فيه من الإشعار بكثرة الخسار، وعمومه المستتبع، لسرايته إلى ما يلابسهم.
فإن قلتَ: هب أنَّ شراء الضلالة بالهدى وقع مجازاً في معنى الاستبدال، فما معنى ذكر الربح، والتجارة كأن ثَم مبايعة على الحقيقة؟
قلتُ: هذا من الصنعة البديعة التي تبلغ بالمجاز الذروة العليا، وهو أن تُساق كلمةٌ مساق المجاز، ثم تقفَّى بأشكال لها، وأخوَاتٍ إذا تلاحقن لم تَرَ كلاماً أحسن منه ديباجة، وأكثر ماءً ورونقاً، وهو المجاز المرشّح، فإيرادهما- إثر الاشتراء- تصويرٌ لما فاتهم من فوائد الهدى بصورة خسار التجارة- الذي يتحاشى عنه كل أحدٍ- للإشباع في التخسير والتحسير. وهذا النوع قريب من التتميم الذي يمثله أهل صناعة البديع بقول الخنساء:
وَإِنَّ صَخْرَاً لَتَأْتَمُّ الْهُدَاةُ بِهِ ** كَأَنَّهُ عَلَمٌ فِيْ رَأْسِهِ نَارُ

لما شبهته- في الاهتداء به- بالعلم المرتفع، أتبعت ذلك ما يناسبه ويحققه، فلم تقنع بظهور الارتفاع حتى أضافت إلى ذلك ظهوراً آخر، باشتعال النار في رأسه.
وقوله: {وَمَا كَانُواْ مُهْتَدِينَ} أي: لزوال استعدادهم، وتكدير قلوبهم بالرَّين الموجب للحجاب والحرمان الأبدي.
قال الزمخشري: فإن قيل: لِمَ عطف بالواو عدم اهتدائهم على انتفاء ربح تجارتهم، ورُتّباً معاً بالفاء على اشتراء الضلالة بالهدى؟ وما وجه الجمع بينهما- مع ذلك الترتيب- على أن عدم الاهتداء قد فُهم من استبدال الضلالة بالهدى، فيكون تكراراً لما مضى؟ فالجواب: أن رأس مالهم هو الهدى، فلمَّا استبدلوا به ما يضادُّه- ولا يجامعه أصلاً- انتفى رأس المال بالكلية، وحين لم يبق في أيديهم إلا ذلك الضد- أعني الضلالة- وصفوا بانتفاء الربح والخسارة. لأن الضال في دينه خاسرٌ هالك- وإن أصاب فوائد دنيوية- ولأن من لم يسلم له رأس ماله لم يوصف بالربح، بل بانتفائه، فقد أضاعوا سلامة رأس المال بالاستبدال، وترتّب على ذلك إضاعة الربح.
وأما قوله: {وَمَا كَانُواْ مُهْتَدِينَ} فليس معناه عدم اهتدائهم في الدين- فيكون تكراراً لما سبق- بل لما وُصفوا بالخسارة في هذه التجارة أشير إلى عدم اهتدائهم لطرق التجارة- كما يهتدي إليه التجار البصراء بالأمور التي يُربح فيها ويُخسر- فهذا راجع إلى الترشيح.

.تفسير الآية رقم (17):

القول في تأويل قوله تعالى: {مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَاراً فَلَمَّا أَضَاءتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لاَّ يُبْصِرُونَ} [17].
ولما جاء بحقيقة صفتهم، عقّبها بضرب المثل- زيادة في الكشف، وتتميماً للبيان- فقال تعالى: {مَثَلُهُمْ} أي: مثالهم في نفاقهم، وحالهم فيه: {كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ} أي: أوقد: {نَاراً} في ظلمة- والتنكير للتعظيم-: {فَلَمَّا أَضَاءتْ} أي: أثارت النار: {مَا حَوْلَهُ} فأبصر، واستدفأ، وأمن مما يخافه: {ذَهَبَ اللّهُ بِنُورِهِمْ} أي: أطفأ الله نارهم- التي هي مدار نورهم- فبقوا في ظلمة وخوف- وجمع الضمير مراعاة لمعنى الذي، كقوله: {وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خَاضُوا} [التوبة: 69] {وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لاَّ يُبْصِرُونَ} ما حولهم- متحيرين عن الطريق، خائفين- فكذلك هؤلاء استضاؤوا قليلاً بالانتفاع بالكلمة المجراة على ألسنتهم، حيث أمِنوا على أنفسهم وما يتبعها، ثم وراء استضاءتهم بنور هذه الكلمة- ظلمة النفاق- التي ترمي بهم إلى ظلمة سخط الله، وظلمة العقاب السرمد، ومحصوله: أنهم انتفعوا بهذه الكلمة مدّة حياتهم القليلة، ثم قطعه الله تعالى بالموت.
ونُقِلَ- عن كثير من السلف- تفسير آخر، وهو: تمثيل إيمانهم أوّلاً، ثم كفرهم ثانياً. فيكون إذهاب النور في الدنيا، كما قال تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا} [المنافقون: 3] الآية، فلما آمنوا أضاء الإيمان في قلوبهم- كما أضاءت النار لهؤلاء الذين استوقدوا ناراً- ثم لمّا كفروا، ذهب الله بنورهم: انتزعه- كما ذهب بضوء هذه النار- وعلى هذا فالتمثيل مرتبط بما قبله. فإنهم- لما وُصفوا بأنهم اشتروا الضلالة بالهدى- مثّل هداهم- الذي باعوه بالنار المضيئة ما حول المستوقد- والضلالة- التي اشتروها وطبع بها على قلوبهم- بذهاب الله بنورهم، وتركه إيّاهم في الظلمات.
قال الزمخشري في الكشف: ولضرب العرب الأمثال، واستحضار العلماء المثل والنظائر شأنٌ ليس بالخفي في إبراز خبيّات المعاني، ورفع الأستار عن الحقائق، حتى تريك المتخيل في صورة المحقَّق، والمتوهم في معرض المتيقّن، والغائب كأنه مشاهد- وفيه تبكيت للخصم الألدّ، وقمعٌ لسَوْرةِ الجامح الآبِي.
ولأمرٍ ما، أكثر الله- في كتابه المبين، وفي سار كتبه- أمثاله، وفشت في كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكلام الأنبياء والحكماء، قال الله تعالى: {وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ} [العنكبوت: 43].
والمثَلَ: في أصل كلامهم بمعنى: المِثْل وهو النظير. يقال: مِثْل، ومَثَل، ومثيل- كشِبه وشَبَه وشَبيه- ثم قيل للقول السائر الممثّل مضربه بمورده: مَثَلٌ. ولم يضربوا مثلاً، ولا رأوه أهلاً للتسيير ولا جديراً بالتداول والقبول، إلا قولاً فيه غرابة من بعض الوجوه. ومن ثَمّ حوفظ عليه، وحُمي من التغيير.
فإنه- لو غُيِّر- لربما انتفت الدلالة على تلك الغرابة. وقيل: إن المحافظة على المثل إنما هي بسبب كونه استعارة. فوجب لذلك أن يكون هو بعينه لفظ المشبه به. فإن وقع تغيير، لم يكن مَثَلاً، بل مأخوذاً منه، وإشارة إليه- كما في قولك: بالصيف ضيعتَ اللبنَ بالتذكير.
وقال بعضهم: قد استعير المثل للحال، أو القصَّة، أو الصِّفة- إذا كان لها شأن، وفيها غرابة- كأنه قيل: حالهم العجيبة الشأن كحال الذي استوقد ناراً. وكذلك قوله: {مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ} [الرعد: 35] أي:- فيما قصصنا عليك من العجائب- قصة الجنّة العجيبة الشأن، ثم أخذ في بيان عجائبها: {وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلَى} [النحل: 60] أي: الوصف الذي له شأن من العظمة والجلالة {مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ} [الفتح: 29] أي: صفتهم وشأنهم المتعجب منه.
ولما في المثل من معنى الغرابة قالوا: فلان مثلة في الخير والشر، فاشتقوا منه صفة للعجيب الشأن.

.تفسير الآية رقم (18):

القول في تأويل قوله تعالى: {صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لاَ يَرْجِعُونَ} [18].
{صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ} الصمم: آفة مانعة من السماع، سمّى به فقدان حاسّة السمع، لما أنّ سببه اكتناز باطن الصِّماخ، وانسداد منافذه، بحيث لا يكاد يدخله هواء يحصل الصوت بتموّجه. والبكم: الخرس. والعمَى: عدم البصر عمّا من شأنه أن يُبصر.
وُصفوا بذلك- مع سلامة حواسّهم المذكورة- لما أنّهم سّدوا عن الإصاخة إلى الحقّ مسامعهم، وأبوا أن يُنطلقوا به ألسنتهم، وأن ينظروا ويتبصروا بعيونهم، فجعلوا كأنما أصيب بآفة مشاعرهم- كقوله-:
صُمٌّ إِذَا سَمِعُوْا خَيْراً ذُكِرْتُ بِهِ ** وَإِنْ ذُكِرْتُ بِسُوْءٍ عِنْدَهُمْ أذِنُوْا

وكقوله:
أَصمُّ عَنِ الشَّيْءِ الَّذِيْ لَا أُرِِيْدُهُ ** وَاسْمَعُ خَلْقَِ اللَّهِ حِيْنَ أُرِيْدُ

{فَهُمْ لاَ يَرْجِعُونَ} أي:- بسبب اتصافهم بالصفات المذكورة- لا يعودون إلى الهدى- بعد أن باعوه، أو عن الضلالة- بعد أن اشتروها، فالآية الكريمة تتمةٌ للتمثيل بأن ما أصابهم ليس مجرد انطفاء نارهم، وبقائهم في ظلمات كثيفة هائلة- مع بقاء حاسة البصر بحالها- بل اختلَّت مشاعرهم جميعاً، واتصفوا بتلك الصفات فبقُوا جامدين في مكانهم لا يرجعون، ولا يدرون أيتقدَّمون أم يتأخَّرون؟ وكيف يرجعون إلى ما ابتدأوا منه؟.